سورة الرحمن - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)}.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، قال: وعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل وهو فارغ.
وكذا قال الضحاك: هذا وعيد.
وقال قتادة: قد دنا من الله فراغ لخلقه.
وقال ابن جريج: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي: سنقضي لكم.
وقال البخاري: سنحاسبكم، لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال لأتفرغن لك وما به شغل، يقول: لآخذنك على غِرَّتك.
وقوله: {أَيُّهَا الثَّقَلانِ} الثقلان: الإنس والجن، كما جاء في الصحيح: «يسمعها كل شيء إلا الثقلين» وفي رواية: «إلا الجن والإنس». وفي حديث الصور: «الثقلان الإنس والجن» {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
ثم قال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} أي: لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام المحشر، الملائكة محدقة بالخلائق، سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب {إِلا بِسُلْطَانٍ} أي: إلا بأمر الله، {يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلا لا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 10- 12].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27].
؛ ولهذا قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ}.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الشواظ: هو لهب النار.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: الشواظ: الدخان.
وقال مجاهد: هو: اللهيب الأخضر المنقطع.
وقال أبو صالح الشواظ هو اللهيب الذي فوق النار ودون الدخان.
وقال الضحاك: {شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} سيل من نار.
وقوله: {وَنُحَاسٌ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَنُحَاسٌ} دخان النار. وروي مثله عن أبي صالح، وسعيد بن جبير، وأبي سنان.
قال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاسا- بضم النون وكسرها- والقراء مجمعة على الضم، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة:
يُضِيءُ كَضَوءِ سراج السَّلِيـ *** ـط لم يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا
يعني: دخانا، هكذا قال.
وقد روى الطبراني من طريق جُويَبْر، عن الضحاك؛ أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه. فسأله شاهدا على ذلك من اللغة، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان:
ألا من مُبلغٌ حَسًّان عَنِّي *** مُغَلْغلةً تدبّ إلى عُكَاظِ
أليس أبُوكَ فِينَا كان قَينًا *** لَدَى القينَات فَسْلا في الحَفَاظ
يَمَانِيًّا يظل يَشدُ كِيرًا *** وينفخ دائبًا لَهَبَ الشُّواظ
قال: صدقت، فما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له. قال: فهل تعرفه العرب؟ قال: نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول:
يُضِيءُ كَضَوء سَراج السَّليط *** لَمْ يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا
وقال مجاهد: النحاس: الصُّفّر، يذاب فيصب على رؤوسهم.
وكذا قال قتادة.
وقال الضحاك: {ونحاس} سيل من نحاس.
والمعنى على كل قول: لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا؛ ولهذا قال: {فَلا تَنْتَصِرَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}


{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}.
يقول تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} يوم القيامة، كما دلت عليه هذه الآية مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها، كقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16]، وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا} [الفرقان: 25]، وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1، 2].
وقوله: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أي: تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس يوم القيامة والسماء تَطِش عليهم».
قال الجوهري: الطش: المطر الضعيف.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}، قال: هو الأديم الأحمر.
وقال أبو كُدَيْنة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}: كالفرس الورد.
وقال العوفي، عن ابن عباس: تغير لونها.
وقال أبو صالح: كالبِرْذَون الورد، ثم كانت بعد كالدهان.
وحكى البَغَوي وغيره: أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء، وفي الشتاء حمراء، فإذا اشتد البرد اغْبَرَّ لونها.
وقال الحسن البصري: تكون ألوانا.
وقال السدي. تكون كلون البغلة الوردة، وتكون كالمهل كدردي الزيت.
وقال مجاهد: {كَالدِّهَان}: كألوان الدهان.
وقال عطاء الخراساني: كلون دُهْن الوَرْد في الصفرة.
وقال قتادة: هي اليوم خضراء، ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان.
وقال أبو الجوزاء:
في صفاء الدهن.
وقال أبو صالح بن جريج: تصير السماء كالدهن الذائب، وذلك حين يُصيبها حر جهنم.
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، وهذه كقوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36]، فهذا في حال، وثَمّ حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم، قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]؛ ولهذه قال قتادة: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، قال: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟ فهو قول ثان.
وقال مجاهد في هذه الآية: لا يسأل الملائكة عن المجرم، يُعْرَفُون بسيماهم.
وهذا قول ثالث. وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلامات تظهر عليهم.
وقال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.
قلت: وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
وقوله: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ} أي: تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، ويلقونه في النار كذلك.
وقال الأعمش عن ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدمه، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.
وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره.
وقال السدي: يجمع بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه، ويُفتل ظهره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام- يعني جده- أخبرني عبد الرحمن، حدثني رجل من كندة قال: أتيت عائشة فدخلت عليها، وبيني وبينها حجاب، فقلت: حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد فيها شفاعة؟ قالت: نعم، لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شِعَار واحد، قال: «نعم حين يوضع الصراط، ولا أملك لأحد فيها شفاعة، حتى أعلم أين يسلك بي؟ ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه، حتى أنظر ماذا يفعل بي- أو قال: يوحى- وعند الجسر حين يستحد ويستحر» فقالت: وما يستحد وما يستحر؟ قال: «يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف، ويستحر حتى يكون
مثل الجمرة، فأما المؤمن فيجيزه لا يضره، وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدمه فيهوي بيده إلى قدميه، فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه، فتقذفه في جهنم، فيهوي فيها مقدار خمسين عاما». قلت: ما ثقل الرجل؟ قالت: ثقل عشر خلفات سمان، فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام.
هذا حديث غريب جدا، وفيه ألفاظ منكر رفعها، وفي الإسناد من لم يُسَمّ، ومثله لا يحتج به، والله أعلم.
وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} أي: هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانًا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا.
وقوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى: {إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 71، 72].
وقوله: {آن} أي: حار وقد بلغ الغاية في الحرارة، لا يستطاع من شدة ذلك.
قال ابن عباس في قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} قد انتهى غلْيه، واشتد حرّه.
وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي.
وقال قتادة: قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض.
وقال محمد بن كعب القرظي: يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس. وهي كالتي يقول الله تعالى: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}. والحميم الآن: يعني الحار.
وعن القرظي رواية أخرى: {حَمِيمٍ آنٍ} أي: حاضر. وهو قول ابن زيد أيضا، والحاضر، لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار، كقوله تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 5] أي حارة شديدة الحر لا تستطاع. وكقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] يعني: استواءه ونضجه. فقوله: {حَمِيمٍ آنٍ} أي: حميم حار جدا. ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال ممتنا بذلك على بريته: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.


{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)}.
قال ابن شَوْذب، وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} في أبي بكر الصديق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}: نزلت في الذي قال: أحرقوني بالنار، لعلي أضل الله، قال: تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا، فقبل الله منه وأدخله الجنة.
والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول تعالى: ولمن خاف مقامه بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما قال البخاري، رحمه الله.
حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي، حدثنا أبو عِمْران الجَوْني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود، من حديث عبد العزيز، به.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه- قال حماد: ولا أعلمه إلا قد رفعه- في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، وفي قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين.
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة، عن عطاء بن يَسَار، أخبرني أبو الدرداء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، فقلت: وإن زنى أو سرق؟ فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}. فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: «وإن رغم أنف أبي الدرداء».
ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَرْمَلَة، به ورواه النسائي أيضا عن مؤمِّل بن هشام، عن إسماعيل، عن الجُرَيري، عن موسى، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي الدرداء، به. وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء. وروي عنه أنه قال: إن من خاف مقام ربه لم يزْنِ ولم يسرق.
وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
ثم نعت هاتين الجنتين فقال: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي: أغصان نَضِرَة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة: إن الأفنان أغصان الشجَر يمس بعضُها بعضا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا مسلم بن قتيبة، حدثنا عبد الله بن النعمان، سمعت عكرمة يقول: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، يقول: ظِل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر حيث يقول:
ما هاجَ شَوقَكَ من هَديل حَمَامَةٍ *** تَدْعُو على فَنَن الغُصُون حَمَاما
تَدْعُو أبا فَرْخَين صادف طاويا *** ذا مخلبين من الصقور قَطاما
وحكى البغوي، عن مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والكلبي: أنه الغصن المستقيم طوالا.
قال: وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد السلام بن حرب، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}: ذواتا ألوان.
قال: وقد روي عن سعيد بن جبير، والحسن، والسدي، وخُصَيف، والنضر بن عربي، وأبي سِنَان مثل ذلك. ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ، واختاره ابن جرير.
وقال عطاء: كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}: واسعتا الفناء.
وكل هذه الأقوال صحيحة، ولا منافاة بينها، والله أعلم.
وقال قتادة: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ينبئ بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها.
وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذكر سدرة المنتهى- فقال: «يسير في ظل الفَنَن منها الراكب مائة سنة- أو قال: يستظل في ظل الفَنَن منها مائة راكب- فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القِلال».
رواه الترمذي من حديث يونس بن بكير، به.
{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي: تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى السلسبيل.
وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين.
ولهذا قال بعد هذا: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي: من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
قال إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة.
وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني: أن بين ذلك بَونًا عظيما، وفرقًا بينا في التفاضل.

1 | 2 | 3